بَرِع اليمنيون في فنون عديدة ومنها فن النحت, وحكت الآثار التي ما تزال باقية إلى اليوم الإبداع والتميز الذي وصل إليه الإنسان اليمني في هذا المجال ومجالات أخرى مماثلة، اليوم ثمة تراجع لهذا الفن الراقي، فلا تكاد تمر على شارع رئيسي أو ميدان كبير من الميادين في العاصمة صنعاء أو أي مدينة يمنية أخرى باحثاً عن وجود مجسمات تُعبر عن تاريخ اليمن العريق, أسوة بمدن عربية إلا وتصيبك الصدمة بأن لاوجود لها, بحثنا عن سبب عدم وجود مجسمات رمزية, وجهنا أسئلتنا لـ مسؤولين في وزارتي الثقافة والسياحة وأمانة العاصمة, والتقينا المعنيين بالموضوع وخرجنا بالحصيلة التالية:
(تركي، مصري، صيني)
البداية من باب اليمن في العاصمة صنعاء والذي يعتبر أحد المعالم الرئيسية في البلاد، قمنا بعمل جولة سريعة على المدينة العتيقة بحثاً عن مجسمات لرموز المدينة فلم نجد, قررنا أن نصول ونجول في شوارع صنعاء حصراً للمجسمات وأول شيء صادفنا بعد أن خرجنا من صنعاء القديمة هو«النصب التذكاري التركي» الذي أنشئ في بدايات العام 2011,العام الذي شهدت فيه اليمن تحولاً غير مسبوق في تاريخها المعاصر, يقول الأتراك انهم افتتحوا هذا النصب تخليداً لذكرى الجنود الأتراك الذين فقدوا أرواحهم أثناء تأدية خدماتهم ضمن الفيلق السابع في اليمن، وبهذه العبارة تم تقديم النصب التذكاري، الذي أقيم أمام مبنى مجمع وزارة الدفاع، وشيد النصب التذكاري التركي على شكل هرمي بني من أحجار البلق التي اختيرت من مواقع نظيفة وشكلت بطريقة جميلة، بارتفاع 10.6امتار وبعمق 6 أمتار, ويوجد «استيل» صلب حول النصب التذكاري مع سلسلة من الفولاذ الخالص, وقد أثار إنشاء نصب تذكاري تركي في اليمن جدلاً كبير بين مؤيد ومعارض له.
وبعد امتار من النصب التذكاري التركي وجدنا “ضريح الجندي المجهول” في مقبرة الشهداء المصريين المجاورة لمقبرة خزيمة, فقررنا أن نواصل السير باتجاه واحد حتى وصلنا إلى منطقة عصر المرتفعة والتي يتواجد فيها “النصب التذكاري المصري” الذي تم افتتاحه منتصف مايو من العام 2006م, وجدنا المكان مثالياً لأن يطلق عليه منطقة سياحية فيها حديقة وإنارة، وكذا مواقف للسيارات ومواقع للجلوس, ويخلد النصب التذكاري الشهداء المصريين الذين استشهدوا أثناء الدفاع عن ثورة 26سبتمبر إلى جانب اليمنيين.
ولم نمش أميالاً حتى وجدنا نصباً تذكارياً آخر وهو “النصب التذكاري الصيني” والمعروف بـ “القبر الصيني” والذي يخلد ذكرى العشرات من العمال والمهندسين الصينيين الذين قضوا على أرض اليمن وهم يؤدون واجبهم في إنشاء مشاريع البنية التحتية المقدمة من الصين.
نصبٌ.. ودم مسفوح
قررنا زيارة النصب التذكارية الموجودة في ميدان السبعين بصنعاء وبدأنا بـ “نصب الجندي المجهول” في ميدان السبعين والذي يعتبر نصباً تذكارياً للجنود اليمنيين الذين ضحوا بحياتهم في سبيل انتصار ثورة الـ26 من ستبمبر 1962م, وشاءت الأقدار أن يكون بجانب هذا النصب نصب تذكاري آخر لجنود استشهدوا في ذات الميدان أثناء عرض عسكري تجريبي عشية الاحتفال بعيد الوحدة اليمنية يوم 21 مايو 2012م، حيث نفذت عملية انتحارية من قبل أحد إرهابي عناصر تنظيم القاعدة, وافتتح النصب بعد عام على ارتكاب تلك الجريمة البشعة.
لاحظنا أننا ابتعدنا عن هدفنا الأساسي والمتمثل بالبحث عن المجسمات في العاصمة, وبالرغم أن “النصب التذكارية “للجنود المجهولين أو للعمال المجهولين يعتبر تقليداً قديماً اتبعته بعض الدول الأوروبية وبعض دول الشرق بعد الحرب العالمية الأولى, إلا أنها أصبحت ذات أهمية في أي مدينة في العالم لأنها تُكون ملامح وسمات خاصة للمدن في العصر الحديث
اتجهنا يميناً وشمالاً وطفنا العاصمة شرقاً وغرباً ولم نجد سوى المجسم الأشهر في عصرنا الحاضر والذي كتب عليه عبارة “الإيمان يمان والحكمة يمانية” الذي مثل رمزا لثورة الشباب السلمية التي أنهت حقبة حكم الرئيس السابق صالح, وكذلك مجسم “الساعة “ في منطقة الحصبة التي شهدت حروباً متقطعة بين جنود ورجال قبائل مسلحين مؤيدين ومعارضين خلال أحداث 2011, وأدت لتدمير منشآت حكومية ومنازل لمواطنين, ولم يسلم هذا المجسم من الأعيرة النارية التي أوقفت فيه عقارب الساعة, وباتجاه شمال العاصمة هناك مجسم “آية” الذي يعبر عن ذكر الملكة سبأ في القرءان الكريم, أما في جنوب العاصمة فوجدنا مجسم “ المفكر” الذي افتتح بمناسبة احتفائية صنعاء عاصمة للثقافة العربية عام 2004 م، هذا ما تم حصره في العاصمة صنعاء فقط.
فكرة مستعارة
اتجهنا لمقابلة الخبراء في مجال المجسمات والتصاميم لمعرفة أين تكمن المشكلة، وأين يكمن الخلل, كانت البداية مع الأستاذ الدكتور عبده عثمان غالب “الخبير في علم الآثار”, والذي قال: يجب أن تتوجه طاقات وزارة السياحة والثقافة والسلطات المحلية في المحافظات، ثم المراكز الثقافية والوكالات السياحية لتزيين المدن بالمجسمات، فنشر المجسمات في المدن جزء من صناعة السياحة، ووجودها اعتراف منا بحضارتنا وتجسيد لهذا الاعتراف.
- ويضيف: المجسمات أو التماثيل تعتبر تحفاً أو أعمالاً فنية مقولبة أو مشكلة من مادة جامدة من المواد على هيئة وشكل مادة أخرى, ورافق التجسيم نشوء فن الرسم, ولذا فهو قديم جداً, وتنقسم المجسمات إلى أرضية وجدارية، وعادة ما يستخدم النحت عند إنشاء أي مجسم، وقد ركز علماء الآثار في دراساتهم للتماثيل القديمة على الطرق والأساليب الفنية التي استخدمها الصناع في صناعة التماثيل، باعتبارها أحد أهم المعايير في قياس تطور الفنون وتحديد طبيعة الصلات التي كانت قائمة بين مجتمعات العالم القديم، وخلال دراستهم للأساليب الفنية كانوا يضعون في الاعتبار معرفة مهارات الصناع والتقنيات التي استخدموها في صناعة التماثيل، فهي تلقي كثيراً من الضوء على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والدينية التي كانت شائعة, علماً أن دراسة صناعة التماثيل لهذه الفترة لا تنتهي عند تحديد خصائصها ومميزاتها، بل تمتد لتشمل توضيح تلك الخصائص والمميزات كخطوة أساسية نحو تحديد مكان ومراحل النمو والتطور.
- وأردف: ولأن اليمن في الماضي لم تدخل ضمن استراتيجيات علماء آثار الشرق الأدنى القديم، فإن نتائج الأعمال الأثرية التي نفذها بعض من علماء الآثار والمؤسسات العلمية ذات الاهتمام بآثار وحضارة اليمن القديم جاءتنا منقوصة وغير قادرة على تحديد خصائص ومميزات الفنون اليمنية القديمة، خصوصاً فن النحت ولم تحاول حتى رسم خطوط عريضة تساعد في تتبع مراحل نشوئها وتطورها، ورغم اعترافهم بأن التماثيل اليمنية التي قاموا بدراستها صنعها فنانون يمنيون لكنهم متمسكون برأيهم القديم المستمر بأن الفكرة والموضوعات التي تجسدها التماثيل اليمنية مستعارة.
أصنـــــام
توجهنا لطرح موضوعنا على وزارتي السياحة والثقافة والمجلس المحلي بأمانة صنعاء, وكانت البداية مع الدكتور سمير العبدلي وكيل وزارة السياحة, الذي أكد أن عدم وجود المجسمات في شوارع مدن اليمن هو لسبب بسيط يتمثل بأن معظم التيارات الإسلامية تعتبر المجسمات الجمالية نوعاً من الأصنام التي نهى عنها الإسلام؛ في حين أن دولاً كثيرة إسلامية منها تركيا على سبيل المثال لديها مجسمات ودولاً خليجية، أيضاً ولم تعتبرها دليلاً على العودة لعبادة الأصنام؛ فرفض وجود المجسمات يعتبر ثقافة سائدة في المجتمع.
- وفي رده على سؤالنا بمدى صحة أن الدولة مقصرة وغير مهتمة بالموضوع ولو حتى بتوعية المجتمع, قال العبدلي: معظم النخب التي تدير الدولة سواء في السلطة أو من وراء الستار نخب قبلية في ثقافتها، فهي دائماً ما يكون آخر شيء تفكر فيه هو الجانب الجمالي والحضاري، والدليل أن معظم تلك النخب تسافر إلى الخارج وتنبهر بحضارات الآخرين، ولكنهم عندما يعودون إلى أرض الوطن لا يحاولون تطوير بلادنا مثلما يحدث في دول العالم أجمع، ويضيف: أعتقد أننا لدينا خطة لموضوع المجسمات, ولكن نظراً لأن ميزانية وزارة السياحة محدودة جداً بل لا تفي بالمتطلبات الأساسية؛ على الرغم من أن السياحة من الوزارات الاقتصادية التي تدر دخلاً رهيباً للوطن إذا أحسن استغلالها، كما أنها عامل هام جداً في تشغيل البطالة لكن مع الأسف الدولة لا توليها أي اهتمام.